لا تعتمد على الصدمة الأولى، بل استثمرها في البناء، واستغِلَّها في تشييد مناعة إيمانية حصينة تقضي على كل ما تسلل إليك من عدوى الذنوب وجراثيم الهوى، واسمع كلامابن القيِّم وقد فطن إلى هذا المعنى مبكِّرًا:
«وليست التوبة تركًا، وإن كان الترك من لوازمها، وإنما هي فعل وجودي، يتضمن إقبال التائب على ربه وإنابته إليه والتزام طاعته، ومن لوازم ذلك: ترك ما نُهي عنه، ولهذا قال تعالى:(وَأَنِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ )[هود: 3]، فالتوبة رجوعٌ مما يكره سبحانه إلى ما يحب، وليست مُجرَّد الترك، فإن من ترك الذنب تركًا مُجرَّدًا، ولم يرجع منه إلى ما يحبه الرب تعالى؛ لم يكن تائبًا، فالتوبة: رجوع وإقبال وإنابة» 1.
وقد فهم مطرف أن من لوازم التوبة : الرجولة الحقة والوفاء الصارم ، فقد سمع رجلا يقول : أستغفر الله وأتوب إليه ، فأخذ مطرف بذراعه وقال : «لعلك لا تفعل! من وعد فقد أوجب » 2.
لذا عرَّف سهل بن عبد الله التسترى التوبة بأنها: «تبديل الحركات المذمومة بالحركات المحمودة» 3، وأكَّد ذلك ابن الجوزي في نغمة لها نفس التردد وذات الصدى لتُحدِث نفس الأثر في الروح:
«قد ثبت في الحكمة أن شفاء الأمراض قصد أسبابها، فمن استشفى لمرضه بغير ذلك فقد أتى البيوت من غير أبوابها، فمن كان داؤه المعصية فشفاؤه الطاعة، ومن كان داؤه الغفلة فشفاؤه اليقظة، ومن كان داؤه كثرة الاشتغال فشفاؤه في تفريغ البال» 4.
وسماه المقدسي سبيل المضادة حين قال:
«فاسلك سبيل المضادة، فإن الأمراض إنما تعالج بضدها» 5.
فكل من أدمن الاستماع إلى الغناء المحرَّم وجلس مجالس الغيبة لا يكفِّر ذلك عنه إلا سماع القرآن ومجالس الذكر، وكل من أطلق بصره في حرام لا تتم توبته إلا بتقليب نظره إما في كتاب الله المنظور وهو كونه العظيم أو كتاب الله المقروء وهو قرآنه الكريم، وكل من سعت قدمه إلى أماكن الحرام لا بد له من إتعاب هذه القدم في السعي إلى الخيرات والقربات حتى يشفى، وكل من تلوَّث لسانه بالفحش من القول والسباب والغيبة لا بد له من تطهيره بالذكر؛ لذا أوصاك ابن المبارك :
اغتنم ركعتين زلفـــــــــى إلى الله إذا كنـــت فارغًا مستريحا
وإذا ما هممت بالنطق في الباطل فاجعــــــــل مكانه تسبيحا 6
والشاهد: فاجعل مكانه تسبيحًا...
إن العمل وحده هو الذي يمحو العمل، والسعي والجد بحزم في تكفير السيئات هو العملة المعتمدة في شراء العفو، «وأما انتظار عفو الله تعالى، فعفو الله سبحانه ممكن، إلا أن الإنسان ينبغي له الأخذ بالحزم، وما مثال ذلك إلا كمثل رجل أنفق أمواله كلها، وترك نفسه وعياله فقراء ينتظر من الله تعالى أن يرزقه العثور على كنز فى خربة، وهذا ممكن إلا أن صاحبه ملقب بالأحمق» 7.
فهم كعب بن مالك مفهوم التوبة العملية بفطرته الإيمانية، وكان قد تخلَّف عن غزوة تبوك دون عذر، ثم اعترف بذلك صادقًا أمام رسول الله (ص)، ومع أن الله جلَّ في علاه قد شهد له بقبول توبته وأنزل في ذلك قرآنًا يُتلى إلى قيام الساعة: (وَعَلَى ٱلثَّلَـٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتۡ عَلَيۡہِمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ وَضَاقَتۡ عَلَيۡهِمۡ أَنفُسُهُمۡ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلۡجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّآ إِلَيۡهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ )[التوبة: 118]
لكن كعبًا لم يركن بعد هذه التبرئة الإلهية إلى الراحة والسكون بل فهم أن له دورًا آخر وعملاً لم يتم فقال:
«يا رسول الله! إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أُحدِّث إلا صدقًا ما بقيت، قال: فوالله ما علمت أن أحدًا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله (ص) إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني الله به، والله ما تعمَّدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله (ص) يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي».
وأصرَّ على تأكيد توبته بعمل صالح آخر حين قال:
«يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله». قال رسول الله (ص): «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك». قلت: فإني أُمسك سهمي الذي بخيبر 8.
وإشارة أخرى نلتقطها من سهل بن عبد الله التستري، وهي أن العمل الصالح هو توطئةٌ للمغفرة وعلامة من علاماتها. قال رحمه الله:
«من وفَّقه الله لصالح الأعمال، فذاك دليل على أنه مغفورٌ له، لأن الله تعالى قال:(يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَـٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ ) الأحزاب: 71 ».
([1]) الفوائد ص 164 - ط دارالنفائس.
([2]) نثر الدر 2/67
([3]) الإحياء 4/4.
([4]) التذكرة في الوعظ ص 53.
([5]) مختصر منهاج القاصدين ص 260.
([6]) شعب الإيمان4/275.
([7]) مختصر منهاج القاصدين ص 267.
([8]) صحيح : رواه الشيخان عن كعب بن مالك كما في اللؤلؤ والمرجان حديث رقم : 1762.
|
اضف تعليقك