اللطيف!
من لمح خفيَّ لُطْفه رَضِي بجميع فعله المعنى
الأول: العالم بدقائق الأمور
وهذا العلم بالدقائق يشمل الأشياء المادية والمعنوية كالآتي:
الأشياء المادية: والتي لا يراها الناس بالعين المجرَّدة..
الميكروبات مثلا.. والحيوانات المنوية التي يصل عددها 40 مليون حيوان منوي في القذفة الواحدة!
وخلايا الدماغ: التي تبلغ 100 مليار خلية عصبية في المخ الواحد! وطول الأوعية الدموية فيها 20 ألف ميل!
كل هذه وغيرها مما خفي عنا يعلمها اللطيف بتفاصيلها.
الأشياء المعنوية: كالدوافع والأحاسيس:
فكل قرار يتخذه أحدنا لا نرى منه إلا ظاهره، وأما خباياه، وخلفياته، والدوافع الخفية التي أدت إليه، فهذه لا يعلمها إلا اللطيف.
لكن لماذا يقترن دائما اسم اللطيف بالخبير؟ والجواب: لأن اللطف (العلم بدقائق الأمور) لا يتأتي إلا بالخبرة، ولذا اقترن بها اللطف..
المعنى الثاني: لطف وجود الله الله عز وجل من لطفه لا تُحِس بوجوده، فلا تراه ولا تسمعه، لكنك تستشعر وجوده، ومن لطفه لا يُشعِرك بمراقبة ملائكته التي تسجل عليك الحسنات والسيئات، بل ولا تشعر أن عليك ملائكة معقِّبات من بين يديك ومن خلفك، وهم مكلفون بحراستك، لكنهم في غاية اللطف، فلا تشعر بوجودهم، ولو جُعلت عليك حراسة خاصة من البشر يلازمونك في كل تحركاتك وانتقالاتك، لشعرت أنك أسير مقيَّد، ولما أطَقَتَ هذا ولا تحملته.
ومن لطفه كذلك أنك لا تسمع أنفاسك المترددة على مدار يومك، ولا ضربات قلبك، ولو سمعتها لما طاب لك عيش ولا قرَّت لك عين! هذا والله من أعظم اللطف.
المعنى الثالث: يوصل إحسانه في رفق
اللطيف وحده من (يعلم) دقائق المصالح وغوامضها، فيعلم ما ينفعك ليجلبه لك، ويعلم ما يضرك فيصرفه عنك، ولاحظ أن أحب الأحبة وأقرب الأقرباء إليك لا يعلمون هذا، فلربما ضروك من حيث أرادوا أن ينفعوك، كالدبة التي قتلت صاحبها، ومع هذا العلم هو وحده الذي (يقدر) على إيصال هذه المصالح لك. وهذا الرفق يحبه الله، فقد قال: «يا عائشة..إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله». ولهذا كانت القواعد الشرعية المعتبرة دالة على هذا (اللطف)، فمنها قاعدة: المشقة تجلب التيسير، وقاعدة: الضرورات تبيح المحظورات، وقاعدة: إذا ضاق الأمر اتسع..
ولهذا اللطف الممتزج بالرفق صور:
أنه أعطى الناس فوق ما يحتاجون، وكلّفهم دون ما يطيقون. ففرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة تستغرق ساعة من 24 ساعة.. وفرض صوم شهر في السنة من أصل اثني عشر شهر .. وجعل الزكاة ربع العُشر ما حال عليه الحول وبلغ النصاب.. وقبل التوبة بأيسر ما يكون من نطق لسان وصدق جَنان، ولو كلفك أن تتوب بقتل نفسك كما فعل مع بني إسرائيل لما أدَّيت ولا وفَّيت. وهذا كله من لطف اللطيف بك.
المعنى الرابع: خفاء الإحسان
قال أبو سليمان الخطَّابي عن اسم (اللطيف): «هو البرّ بعباده، الذي يلطف لهم من حيث لا يعلمون، ويسبِّب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون»() إنه الإحسان الخفي.. ما علمنا منه وما لم نعلم.. خذ النحل مثالا.. لولا النحل لما نضجت ثمرة من الثمار لأن النحل هو لقائم بمهمة تلقيح الأزهار، وهذا ما لم يُكتَشَف إلا حديثا. وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن حكمة خلق كثير من الكائنات الحقيرة، والتي لا نعلم سبب إيجادها حتى اليوم، ولعلها لو اختفت لأدت إلى اختلالٍ في التوازن البيئي يؤدي إلى وقوع أبلغ الضرر بحياة الإنسان.
يقال: من لطفه بالعبد إخفاء عاقبته في الآخرة لأنه لو علم أنه من أهل الجنة لاتَّكل على ذلك، وأقلَّ عمله، ولو علم أنه من أهل النار ليأس وترك عمله. قال ابن بطال: «في تغييب خاتمة العمل عن العبد حكمة بالغة وتدبير لطيف، لأنه لو علم وكان ناجيًا أعجب وكسل، وإن كان هالكًا ازداد عتوًا، فحجب عنه»().
ويقال: من لطفه بالعبد إخفاء أجله عنه لئلا يخاف ويستوحش من دنو الأجل. ويقال: من لطفه بالعبد أنه ينسيه ما عمله في الدنيا من الزّلات لئلا يتنغَّص عيشه فى الدنيا أو في بعد دخول الجنات. ويقال: من لطفه بالعبد علمه بأنه لطيف، ولولا لطف الله لما عرف العبد بلطفه. وللُّطف الخفي صور لا تعد ولا تُحصى! فمن لطفه الخفي أن يصرف عن عبده مالا أو منصبا رحمةً به لئلا ينال من دينه، فيظل العبد حزينا، ولو علم ما حماه الله منه لحمد الله وأثنى عليه، ولذا جاء في الحديث: «إن الله تعالى ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه»()
ومن لطفه الخفي أن يقدر على عبده ألوانا من المصائب وضروب المحن، ليسوقه إلى كماله البشري في الدنيا، وكمال النعيم في الجنة. قال ابن القيم: (فالقضاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ لِمَنْ أُعْطِيَ الشكر والصبر جالبا ما جلَب) ().
ومن لطفه الخفي إذا أنزل بالعبد محنة أن يُوِّقه لاحتساب الأجر فيها، فتخف عليه المصيبة، ولا ينسيه نفسه فيجزع، لأن (من لمح فجر الأجر هان عليه ظلام التكليف). قال رسول الله^: «ليَودَّن أهل العافية يوم القيامة أن جلودهم قُرِضت بالمقاريض مما يرون من ثواب أهل البلاء»()
ومن لطفه الخفي أن يصرف عبده عن المعصية مع وجود أسبابها، ويوفقه للطاعة مع غياب أسبابها، ويجعله مستعصما بطوق الدعاء في لجة الشدائد، وهي الثلاث منح التي وهبها الله يوسف عليه السلام عند مراودة امرأة العزيز له! فصرف عنه فحشاء مع أن كل أسبابها كانت مهيأة لها، ووفَّقه للعفة مع غياب أسبابها عنه، واستخرج منه الافتقار بالدعاء في أحلك الأوقات (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)
ومن لطفه الخفي أن يجعل ما ابتُلِي به العبد من المعاصي سببا لتوبته ومفتاحا لهدايته، وسبيلا لإزالة العجب والكبر من قلبه مما هو خير له من كثير من الطاعات؛ خاصة لو كان معجبا متكبِّرا. قال ابن القيم: (فإذا أراد الله بهذا العبد خيرا ألقاه في ذنب يكسِره به) ().
ومن لطفه الخفي أن يُنغّص على العبد عيشه إذا مال نحو المعصية، تنبيها له وتصويبا لمساره، فلا يميل معها كل الميل، (فيتنغص عيشه وقت التذاذه، وما هي إلا لحظة ثم ندم ملازم، وبكاء متواصل، وأسف على ما كان مع طول الزمان، حتى لو تيقن العفو وقف بإزائه حذر العتاب)().
المعنى الخامس: تيسير الأسباب ولو بعدت لكن لطفه مرتبطٌ بمشيئته،
لذا قال: (إن ربي لطيفٌ لما يشاء). فإذا أراد حصول شيءٍ يسَّر له أسبابه، وإن كانت في غاية البعد عن الحصول. قالها يوسف عليه السلام بعد أن تذوقها بصورة عمَلِية في كل مواقفه الحياتية: «إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئا أحكم تدبير الأسباب الموصلة إليه، فجاء بها على غير ما يقدِّر العباد، ثم أراهم من عواقبها ما لم يتوقعوه. وقفات لا تنتهي مع اللطف الإلهي! قال يوسف عليه السلام: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ} واللطف: رفقٌ وإحسان خفي عن الخلق.. فلولا تآمر إخوة يوسف عليه لما ألقي في الجب.. ولولا إلقاؤه في الجب ما أخذته السيارة.. ولولا أخذ السيارة له وزهدهم فيه لما باعوه لعزيز مصر.. ولولا بيعه كالعبيد لما راودته امرأة العزير عن نفسه.. ولولا هذه المراودة لما دخل السجن.. ولولا دخوله السجن لما التقى بصاحبيه.. ولولا تأويله لهما ما رأياه في المنام لما وصل أمره للملك.. ولولا وصول أمره للملك لما خرج من السجن ولا ولي خزائن الأرض.. وهكذا رفع الله يوسف من طريق الذلة.. وأغناه من طريق الفقر.. وأسعده من طريق الشقاء!! (وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) وقد كان الأقرب أن يموت مهشَّما عند إلقائه في الجب.. أو أن يهلك جوعا وعطشا لو تُرِك فيه.. أو تتخذه السيارة خادما، فيعيش طوال حياته ذليلاً مهانا.. ولكنه سبحانه: «لطيفٌ لما يشاء». «لطيفٌ لما يشاء». «لطيفٌ لما يشاء». فلطفه متعلِّقٌ بمشيئته.. ومشيئته مرتبطة بحكمته.. وحكمته لا تنفك عن رحمته.
وإذا لطف بعبده قيَّض له أسبابا خارجة عن إرادته، وغير داخلة تحت قدرته، وفيها كمال صلاحه وفلاحه.
وملمح آخر رائع من لطف الله: البئر مناسب ليوسف الطفل.. والسجن لا يقوى عليه إلا يوسف النبي.. والمُلك لا يَفتِن يوسف الصِّديق! فادعوه بها عبادة وعملا الأول: الطف بالمسلمين عامل الناس بما عاملك الله به، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ^ قال: «يا عائشة! إنَّ الله رفيقٌ يُحِبُّ الرِّفْق، ويُعْطِي على الرِّفْقِ ما لا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي على ما سواه»().
فلا بد لمن آمن باسم الله اللطيف أن يكون لطيفا أي رفيقا هينًا لينًا. وهذا اللطيف الرفيق يكافئه الله بلطف أعظم وأهم في الآخرة، وهل ألطف من معافاتك من النار؟! ففي الحديث: «ألا أخبركم بمن يحرم على النار ومن تحرم عليه النار؟ على كل قريب هيِّن سَهل»(). ولتنو بذلك أن تقتدي بالنبي ^ الذي روى عنه عبد الله بن الحارث بن جَزْءٍ : «ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله»().
الثاني: المحـــاسبة والمراقبة وإذا عَلِمَ العبد أن ربَّه متصفٌ بدقة العلم، وإحاطته بكل صغيرة وكبيرة، وإحاطته وعلمله بالظاهر والباطن لحــــاسب نفسه على أقواله وأفعاله، وحركاته وسكناته؛ لأنه مجازى على أفعاله يوم الدين، ولو كانت مثاقيل الذر (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، فحـاسِب نفسك اليوم قبل حساب الغد.
الثالث: عليك بحب الله إذ لطف بك في كل أحوالك، وحين يتأمل العبد لطف اللطيف به يغرق في بحر محبته، ويزداد تعلقًا به سبحانه وتعالى.
الرابع: الرضا والتوكل قال أبو حامد الغزالي: «من عرَف خفي لطف الله تعالى؛ رضي بفعله على كل حال!»().
كل من رضي بفعل الله في ما مضى، سيتوكَّل عليه في المستقبل بعد أن اطمأن إلى حسن اختياره له. ومن لم يتوكل على الله فما عرف اسم الله اللطيف، ولا تذوقه! قال أبوقدامة: «واعلم أن كل من لا يعتقد في لطف الله تعالى ما يعتقده المريض في الطبيب الحاذق الشفيق، لم يصح توكله»().
عجيب منك أن تثق في كلام طبيبٍ يحتمل الصواب والخطأ، وتلتزم بأمره حرصا على صحتك، ولا تعتقد في حسن اختيار الله لك، وتتعامل مع أوامره وقضائه معاملة المعترض أو المرتاب! ومن جمع بين الرضا والتوكل كافأه الله بمكافأتي العطف واللطف كما قال ابن القيم في الفوائد: «ومتى صحَّ تفويضه ورضاه اكتنفه في المقدور: العطف عليه واللطف به، فيصير بين عطفه ولطفه، فعطفه يقيه ما يحذره، ولطفه يُهوِّن عليه ما قدَّره»().
الخامس: الذل والانكسار.. قال ابن الجوزي : «تضاعَفْ ما أمكنك؛ فإن اللطف مع الضعف أكثر»(). إذا احتجت إلى لطف الله بك ليعافيك مما أضرَّ بك، فأظهر لله ضعفك وانكسارك، وأبشر! (إنما الصدقات للفقراء). واذكر كيف كان رسول الله ^ يرفع يديه في الدعاء يوم عرفة على هيئة استطعام المسكين، ثم قلِّد! والقاعدة هنا: كلما ازدادت له انكسارا كلما غمرك لطفا وإحسانا..
السادس: الدعاء باسم الله اللطيف فادعُ الله: اللهم الطف بي في تيسير كل عسير يا رب العالمين. وهنا سؤال: ما حكم هذا الدعاء: (اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه)؟! والجواب: هذا الدعاء ليس من الدعاء المأثور، ومعناه غير صحيح، لأنه يعارض حديث سلمان رضي الله عنه: ((لا يرد القضاء إلا الدعاء ....)). رواه الترمذي. وفيه دليلٌ على أن الله يدفع بالدعاء ما قد قضاه على العبد، وأن الدعاء يرد ما يكرهه العبد من شر القضاء، ولذا شُرِع لنا في دعاء الوتر أن ندعو: (وقِني شرَّ ما قضيت). وقد بيَّن العلماء أن الدعاء يرد القضاء،
فقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الدعاء سبب يدفع البلاء، فإذا كان أقوى منه دفعه، وإن كان سبب البلاء أقوى لم يدفعه، لكن يخففه ويُضْعِفه)(). وقال السيوطي: (وأما كونه سببا لدفع البلاء - أي الدعاء- فهو أمر لا مرية فيه، فقد وردت أحاديث لا تحصى في أذكار مخصوصة من قالها عُصِم من البلاء، ومن الشيطان، ومن الضر، ومن السم، ومن لدغة العقرب، ومن أن يصيبه شيء يكرهه) ().
فادعوه بها مسألة ودعاء اللهم إنك لطيف لما تشاء، وأنت العليم الحكيم، ارفع عني البلاء والشقاء، وأعذني من الشيطان الرجيم . «اللهم الطف بي في تيسير كل عَسير؛ فإن تيسير كل عَسير عَليك يَسير، وأسألك اليُسْر والمعافاة في الدنيا والآخرة». يا لطيف.. يا من لطفت بنا من حيث لا نعلمك، وأجريت علينا الرزق من حيث لم نحتسب، اتمم علينا لطفك، وأرنا آثاره وملامحه؛ حتى نزدادا لك حبا وبِرًّا. يا لطيف.. ارزقنا الثقة بلطفك حتى نتوكل عليك وحدك، ونقطع حبال اليأس والقنوط يا ذا الرحمة والجبروت. يا لطيف.. الطف بنا عند الوقوع في الذنوب بالتوبة النصوح، وعند القيام بالطاعات بقبولها رغم أن الآفات منها تلوح. يا لطيف.. اللهم يا لطيفا فوق كل لطيف، الطُف بنا في أمورنا كلها كما نُحِبُّ.. يا لطيف.. لم تزل ألطف بنا من كل أحد، الطف بنا في كل ما نزل. يا لطيف.. عرِّفنا خفِيَّ لطفك لنرضى بجميع فعلك. يا لطيف.. ارزقنا اللطف بالناس حتى نكون معهم ككُلِّ هيِّنٍ ليِّنٍ سهل.
حاسب نفسك تعرف ربَّك هل أنت هين لين (رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ .. سَمْحًا إِذَا اشْتَرى .. سَمْحًا إِذَا اقْتَضى..سَمْحًا إِذَا قضى)؟ هل تستصغر عملا أو قولا فلا تحاسب نفسك عليه؟! هل تعتقد بلطف الله تعالى بك في البلايا كما في العطايا؟!
|