الحكيم
معرفتك بحكمته قطرةٌ في بحر ما لا تعرف من حكمته
أولًا: معنى اسم الله الحكيم
وقد اشتُقّ هذا الاسم الكريم من (الحُكْم) أو (الحكمة)
المعنى الأول:
(الحُكم) أي أن له سبحانه الحكم كله في الدنيا والآخرة والحكم هنا يتناول الأحكام الثلاثة: الأحكام الكونية القدرية، والأحكام الدينية الشرعية من الحلال والحرام، والأحكام الجزائية بالثواب والعقوبة، فله الحكم فيها كله لا شريك له في حكمه، كما لا شريك له في عبادته قال سبحانه وتعالى: )قُلِ اللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ۖ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا( [الكهف: 26].
المعنى الثاني:
(الإحكام) أي الذي له الحكمة البالغة في خلقه وأمره وشرعه، فلا يخلق ولا يأمر إلا بما فيه المصلحة والحكمة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.
قال الحليمي:
«الحكيم: الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب، وإنما ينبغي أن يوصف بذلك لأن أفعاله سديدة، وصنعه متقن، ولا يظهر الفعل المتقن السديد إلا من حكيم، كما لا يظهر الفعل على وجه الاختيار إلا من حي عالم قدير»().
يقول صاحب الظلال:
«إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيرًا، ووراء المحبوب شرًا، إن العليم بالغايات البعيدة المطلع على العواقب المستورة هو الذي يعلم وحده، حيث لا يعلم الناس شيئًا» ().
قد يملك الإنسان قدرة باطشة وعلمًا دقيقًا، لكن من غير حكمة قد يُفسِد أكثر مما يصلح، ولا يكون الكمال البشري إلا بالحكمة، فكيف بحكمة (الحكيم)؟!
قال ابن القيِّم:
«إن العلم والقدرة المجردين عن الحكمة لا يحصل بهما الكمال والصلاح، وإنما يحصل ذلك بالحكمة معهما، واسمه سبحانه (الحكيم) يتضمن حكمته في خلقه، وأمره في إرادته الدينية والكونية، وهو حكيم في كل ما خلقه وأمر به»().
ثانيًا: من نماذج حكمته
قال ابن القيِّم:
«وتأمل حكمته تعالى في أن جعل ملوك العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم، بل كأن أعمالهم ظهرت في صور ولاتهم وملوكهم، فإن استقاموا استقامت ملوكهم، وإن عدلوا عدلت عليهم، وإن جاروا جارت ملوكهم وولاتهم، وإن ظهر فيهم المكر والخديعة فولاتهم كذلك، وإن منعوا حقوق الله لديهم وبخلوا بها منعت ملوكهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحق، وإن أخذوا ممن يستضعفونه مالا يستحقونه في معاملتهم أخذت منهم الملوك مالا يستحقونه، وضربت عليهم المكوس والوظائف، وكل ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة، فعُمَّالهم ظهرت في صور أعمالهم، وليس في الحكمة الإلهية أن يولي على الأشرار الفجار إلا من يكون من جنسهم.
ولما كان الصدر الأول خيار القرون وأبرها كانت ولاتهم كذلك، فلما شابوا شابت لهم الولاة، فحكمه الله تأبى أن يولي علينا في مثل هذه الأزمان مثل معاوية وعمر بن عبد العزيز فضلًا عن مثل أبي بكر وعمر، بل ولاتنا على قدرنا، وولاة من قبلنا على قدرهم»().
قال ابن القيم:
«فإنه لولا القوة الحافظة التي خص بها لدخل عليه الخلل في أموره كلها، ولم يعرف ماله وما عليه، ولا ما أخذ ولا ما أعطى، ولا ما سمع ورأى، ولا ما قال ولا ما قيل له، ولا ذكر من أحسن إليه، ولا من أساء إليه، ولا من عامله، ولا من نفَعَه فيُقرَّب منه، ولا من ضرَّه فينأى عنه، ثم كان لا يهتدي إلى الطريق الذي سلكه أول مرة، ولو سلكه مرارًا، ولا يعرف علمًا ولو درسه عمره، ولا ينتفع بتجربة، ولا يستطيع أن يعتبر شيئًا على ما مضى، بل كان خليقًا أن ينسلخ من الإنسانية أصلًا، فتأمل عظيم المنفعة عليك في هذه الخلال، وموقع الواحدة منها فضلًا عن جميعهن.
ومن أعجب النِّعم عليه نعمة النسيان، فإنه لولا النسيان لما سلا شيئًا، ولا انقضت له حسرة، ولا تعزَّى عن مصيبة، ولا مات له حُزن، ولا بطل له حقد، ولا تمتَّع بشيء من متاع الدنيا مع تذكر الآفات، ولا رجا غفلة عدو، ولا نقمةً من حاسد.
فتأمَّل نعمة الله في الحفظ والنسيان مع اختلافهما وتضادهما، وجعله في كل واحد منهما ضربًا من المصلحة»().
قال ابن القيم:
«وتأمل حكمة الله تعالى في صرفه الهدى والإيمان عن قلوب الذين يصرفون الناس عنه، فصدَّهم عنه كما صدوا عباده، صدًّا بصد، ومنعًا بمنع»().
في الحديث: قال رسول الله ^:
»حدٌّ يُقام في الأرض خيرٌ من مطر أربعين صباحًا»().
وقد تغيب حكمة (الحكيم) في الحدود عن أصحاب العقول، لكنها لا تغيب أبدًا عن أهل الإيمان. قال ابن القيم:
«وأما قطع اليد في ربع دينار وجعل ديتها خمسمائة دينار فمن أعظم المصالح والحكمة، فإنه احتاط في الموضعين للأموال والأطراف، فقطعها في ربع دينار حفظًا للأموال، وجعل ديتها خمسمائة دينار حفظًا لها وصيانة»().
إن عقوبات الذنوب نوعان: شرعية بالحدود، وقدرية بالمصائب، فإذا أقيمت الحدود الشرعية رفع الله العقوبة القدَرية وخفَّفها، وإذا عُطِّلت العقوبات الشرعية استحالت عقوبات قدرية، وربما كانت أشد من الشرعية وأشمل وأعمَّ، فإن الحدود الشرعية تخصُّ، وأما القدرية فهي عامة تنزل بالخاصة والعامة.
فهذا يُبسَط الرزق له فيوسَّع عليه في طعامه وشرابه وكسائه ومسكنه، وهذا يُضيَّق عليه، فلماذا؟!
والجواب: يُوسَّع امتحانًا للعبد هل يشكر أو يكفر، ويضيق ابتلاءًا للعبد هل يصبر أو يسخط، فالغنى لا يدل على رضا الله على العبد ولا على سخطه. والفقر كذلك لا يدل على سخط أو رضا.
عرف ربه الحكيم من عرف حكمة الله في توسيع الرزق وتعسيره.
ما عرف ربه الحكيم من غابت عنه حكمة الله في توسيع الرزق وتعسيره.
ومن حكمته سبحانه أن يُظهِر لعباده حلمه وصبره وأناته وسعة رحمته وجوده، فاقتضى ذلك خلق من يشرك به، ويضاده في حكمه، ويجتهد في مخالفته، ويسعى في سخطه، وهو مع ذلك يسوق إليه أنواع الطيبات ويرزقه ويعافيه، ويعامله من بره وإحسانه بضد ما يعامله هو به من كفره وشركه كما في الصحيح عنه ^ أنه قال: «ليس أحد أصبر على أذى سمعه من الله تعالى إنهم ليدعون له ولدًا ويجعلون له أندادًا وهو مع ذلك يعافيهم ويرزقهم»().
قال ابن القيم:
«فلولا خلق من يجري على أيديهم أنواع المعاصي والمخالفات لفاتت هذه الحكم والمصالح وأضعافها وأضعاف أضعافها، فتبارك الله رب العالمين وأحكم الحاكمين ذو الحكمة البالغة والنعم السابغة»().
ذكر ابن القيِّم طرفًا منها في كتابه إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان، وهو مناسب لوضعه في تناولنا لاسم الله (الحكيم) لأن الشيطان يتخذ ابتلاء المؤمنين وسيلة لبث الشكوك في قلوبهم وزلزلة إيمانهم، فقال في إظهار بعض حكم الابتلاء الغائبة عن الكثيرين:
أربعة أقسام للبلاء
إن البلاء الذى يصيب العبد فى الله لا يخرج عن أربعة أقسام، فإنه إما أن يكون في نفسه، أو في ماله، أو في عرضه، أو في أهله ومن يحب.
وأشد هذه الأقسام: المصيبة فى النفس.
ومن المعلوم أن الخلق كلهم يموتون، وغاية هذا المؤمن أن يُستَشهد فى الله، وتلك أشرف الموتات وأسهلها، فمن عدَّ مصيبة هذا القتل أعظم من مصيبة الموت على الفراش فهو جاهل، بل موت الشهيد من أيسر الميتات وأفضلها وأعلاها، ولكن الفارَّ يظن أنه بفراره يطيل عمره، وقد أكذب الله سبحانه هذا الظن، حيث يقول: (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إن فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذْا لا تُمَتَّعُونَ إلا قَلِيلًا) [الأحزاب: 16]
وإذا كان هذا فى مصيبة النفس، فالأمر هكذا فى مصيبة المال والعرض والبدن، فإن من بخِل بماله أن ينفقه فى سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته، سلبه الله إياه، أو قيَّض له إنفاقه في ما لا ينفعه دنيا ولا أخرى، بل فيما يعود عليه بمضرته عاجلًا وآجلًا، وإن حبسه وادَّخره منعه التمتع به، ونقله إلى غيره، فيكون له مَهْنَؤهُ وعلى مخلِّفه وزره.
وكذلك من رَفَّه بدنه وعرضه وآثر راحته على التعب لله وفى سبيله أتعَبَه الله سبحانه أضعاف ذلك فى غير سبيله ومرضاته، وهذا أمرٌ يعرفه الناس بالتجارب.
عرف ربه الحكيم من فهم الحكمة من الابتلاء، فلم يجزع ولم يسخط، ولم يستسلم ليأس أو قنوط.
ما عرف ربه الحكيم من لم يفهم الحكمة من الابتلاء فجزع وسخط وفقد الرضا.
-
تأخر الإجابة اختبار صعب يحتاج إلى صبر.
هو اختبار ثقة في الله، واليقين بوعده، فمن نجح فيه نال عظيم الأجر بلا سقف ولا حدٍّ (إنما يُوَفّى الصابرون أجرهم بغير حِساب).
فلا يصل عبدٌ لأعظم الأجر إلا عن طريق المشقة والنصب والحرمان والتعب.
والحقيقة أن عدم استعجال الإجابة من أعلى مقامات الدين، لأن حقيقته: تفويض الأمر لرب العالمين في كشف الشدائد ونيل الرغائب، ولا يصدر إلا عن قوة دين وحسن ظنٍّ ويقين.
-
سبحان مالك الملك.
قال ابن الجوزي:
«قد ثبت بالبرهان أن الله عز وجل مالكٌ، وللمالك التصرف بالمنع والعطاء، فلا وجه للاعتراض عليه»().
-
لتحقِّق عبوديتك الكاملة:
فلا تكون عبد الله في الرخاء دون الشدة، وفي العطاء دون المنع، فتكون ممن عبد الله على حرف.
-
لا حقَّ للمخلوق على الخالق:
فلأنه هو الذي خلق، فهو الذي له الأمر والنهي، فإن شاء أعطى، وإن شاء منع، ومع هذا يبحث العبد دومًا عما له، ويغفل عما عليه!
-
فلله الحكمة البالغة:
فلا يعطي إلا لحكمة، ولا يمنع إلا لحكمة، وقد ترى في العطاء مصلحة ظاهرة، ولكن الحكمة لا تقتضيه، وقد تخفى الحكمة في مشرط الجراح، مع أنه يُقصَد بها إنقاذ المريض، فلعل هذا من ذاك.
-
قد يكون في تحقق دعائك أبلغ الضرر:
قال تعالى: (ويدعُ الإنسان بالشَّر دعاءه بالخير)؛ ولذا رُوِي عن بعض السلف أنه كان يسأل الله الغزو، فهتف به هاتف:
«إنك إن غزوت أُسِرْتَ، وإن أسرت تَنَصَّرْتَ»().
فلعل الله بالمنع حجَبَك عن أضرار دينية أو دنيوية، فتساميتَ عن الرذائل السفلية، وسِرْتَ مع أصحاب الهمم العلية إلى أشرف الغايات وأسمى المقامات.
-
اختيار الله لك خيرٌ من اختيارك لنفسك:
وهذا يريح العبد من تشتت الذهن في ألوان الاختيارات، ويفرِّغ قلبك من عناء التدبير، ويضمن راحة البال، فقد وكَّلت أمرك إلى (الحكيم).
قال سفيان الثوري:
«منعه عطاء، وذلك أنه لم يمنع عن بخل ولا عدم، وإنما نظر في خير العبد فمنعه اختيارًا وحسن نظر»().
-
أنت لا تعلم عاقبة أمرك:
فربما تطلب ما لا تُحمَد عاقبته، وربما كان فيه ضررك، فتكون كالطفل المحموم الذي يطلب الحلوى وهي تضره، ومريض الأزمة الذي يأكل الطعام الذي يقتله، ومدبِّر الأمر (الحكيم) أعلم بما يُصلِحك، وهو وحده يعلم عاقبةِ أمرك: (وَالله يعلم وأنتم لا تعلمون) [البقرة / 216]
ولهذا كثيرًا ما يسعى المرء خلف ما يضرُّه، ويفِرُّ مما ينفعه!
فكم فائتٍ فِي فَوتِه لَكَ خيرةٌ ... وإدراكه لو نِلتَه لك أعطَبُ
وكَم مُدرِكٍ أُمْنِيَّة كان داؤه ... بإدراكِها والغيب عَنْهُ مُحجَبُ
-
حتى تنقطع عن الأسباب والمسبِّبات:
لتستحق وصف المضطر، فالمضطر هو المفلس الذي انقطعت به الأسباب، وتأكد أن طلبه بالمقاييس المادية محالٌ، وعندها يأتيه فرَج الله ليستقر في يقينه أن الأمر كله لله، وأنه إن أراد جبر كسرك فعل ذلك بالسبب وبغير سبب بل وبضد السبب.
-
الفوز بمحبة الله:
ففي الحديث:
«إذا أحبَّ الله قومًا ابتلاهم»().
-
أن ما تكره قد يأتي بما تحب:
قال سفيان بن عيينة:
«ما يكره العبد خيرٌ له مما يحب؛ لأن ما يكرهه يهيِّجه للدعاء، وما يُحِبُّه يلهيه»().
وقال ابن ناصر الدين الدمشقي:
إذا اشتدت البلوى تحَفَّفْ بالرضا ... عن الله قد فاز الرَّضيُّ المراقِبُ
وكم نعمةٍ مقرونةٍ ببليةٍ ... على الناس تخفى والبلايا مواهب
-
تأخر الإجابة سبب لتفقد العبد تقصيره مع الأسباب الإيمانية والدنيوية:
فتراجع حالك مع ربك، لتسد خللًا، وتستدرك تقصيرًا، وتجبر كسرًا. قال ابن الجوزي واعظًا نفسه:
«قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك، فربما يكون في مأكولك شبهة، أو قلبك وقت الدعاء في غفلة، أو تزاد عقوبتك في منع حاجتك لذنب ما صدقت في التوبة منه، فابحث عن بعض هذه الأسباب، لعلك تقع بالمقصود»().
فالدعاء كالسَّهم، والسَّهْمُ الضعيف يخْرج من القَوْس الضعيف الرخوة، فلا يَصِلُ إلى مراده، فيدفعك ذلك إلى مراجعة الأسباب المادية والإيمانية التي قصَّرت في الأخذ بها؛ لأن الله لا يجبر تقصيرك فيها.
-
قد يكون دعاؤك استجيب وأنت لا تشعر:
فترى أثره في الدنيا، أو قد يُؤخَّر لك من الأجر مثله يوم القيامة، أو يصرف الله عنك من السوء مثل ما دعوت به، أو أن لا يعطيك ما دعوت به ويعوِّضك بغيره مما هو أنفع لك، كل هذا وأنت لا تشعر، وقد تقرر هذا في الحديث النبوي الصحيح، فكيف تستبطئ الإجابة طالما أن الثمرة مضمونة لكنها منوَّعة؟!
-
قد يكون دعاؤك أضعف من البلاء:
قال ابن القيم:
«وله مع البلاء ثلاث مقامات:
أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه.
الثاني: أن يكون أضعف من البلاء، فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفًا.
الثالث: أن يتقاوما، ويمنع كل واحد منهما صاحبه»().
-
قد تكون سددت طريق الإجابة بالمعاصي:
وفيها يقول الشاعر المؤمن:
نحن ندعو الإلهَ في كل كرب ... ثم ننساهُ عند كشف الكروب
كيف نرجو إجابةَ لدعاءٍ... قد سددنا طريقَها بالذنوب!
وقد يكون ذنبك هو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو سببٌ لا يفطن له كثيرٌ من الناس: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر؛ أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده، ثم لتدعُنَّه فلا يستجيب لكم»().
وقد يكون ذنبك لقمة حرام. قال وهب بن الورد: «لو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل في بطنك أحلال أم حرام»().
فعجَبًا لعبدٍ يستبطئ الإجابة، ولا يستبطئ إجابة ربه إذا دعاه للإنابة!
-
لتتعرَّف على الله بأسمائه وصفاته:
فمن أسماء الله عز وجل: الغني، والمانع، والكريم، والعليم، والبر، والرحيم، والحكيم.
وهي أسماء تستدعي متعلقات تظهر فيها أحكامها وآثارها، وتأخر الإجابة من أسباب ظهور هذه الآثار والأحكام، فقد يمنع الله عز وجل عبدًا لحكمته وعدله وعلمه، وقد يعطيه برحمته وحكمته وبره وعلمه.
-
استخراج أعلى مراتب عبودية القلب:
وأبرز عبادات القلب عند البلاء:
(أ) عبودية انتظار الفرج
(ب) عبودية حسن الظن بالله
(ج) عبودية الرضا
(د) عبودية طول المناجاة
(هـ) عبودية مراغمة الشيطان ومجاهدته
(و) عبودية الاضطرار والانكسار بين يدي الجبار
-
التلذذ بالدعاء:
والتمتع بالمناجاة والقرب.
وقد حكي عن يحيى البكَّاء أنه رأى ربه عز وجل في المنام، فقال: يا رب، كم أدعوك ولا تجيبني؟ فقال:
«يحيى، إني أحب أن أسمع صوتك»().
-
إدمان الدعاء:
فتتأخر الإجابة حتى يتعوَّد لسانك الدعاء، ويداوم عليه، حتى بعد زوال الشدة وانكشافها.
-
لا يمل حتى تملوا:
فلا يمل الله من إرسال ألطافه ونعمه ما دام سؤال العبد مستمرًا، وتذلله لربه قائمًا، وافتقاره حاضرًا، فإذا قطع العبد قطع الرب!
قال سفيان الثوري مشيرًا لفضل إطالة الدعاء:
«لقد أنعم الله على عبدٍ في حاجة أكثر من تضرعه إليه فيها»().
عرف ربه الحكيم من فهم الحكمة من تأخير الإجابة، فلم يستعجلها، ولم ييأس، وما توقَّف عن دعائه.
ما عرف ربه الحكيم من لم يفهم الحكمة من تأخير إجابة دعائه، فعلاه اليأس وانقطع عن الدعاء.
من تمام حكمة الله أنه أجرى سُنَّة الجزاء من جنس العمل، فقال ابن القيِّم:
«لذلك كان الجزاء مماثلًا للعمل من جنسه في الخير والشرِّ..
فمن ستر مسلمًا ستره الله..
ومن يسّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة..
ومن نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدّنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة..
ومن أقال نادمًا أقاله الله عثرته يوم القيامة..
ومن تتبَّع عورة أخيه تتبَّع الله عورته..
ومن ضارَّ مسلمًا ضارّ الله به..
ومن شاقَّ شاقَّ الله عليه..
ومن خذل مسلمًا في موضع يحبُّ نصرته فيه خذله الله في موضع يحبُّ نصرته فيه..
ومن سمح سمح الله له..
والرّاحمون يرحمهم الرَّحمن..
وإنما يرحم الله من عباده الرُّحماء..
ومن أنفق أُنفِقَ عليه..
ومن أوعى أوعي عليه..
ومن عفا عن حقِّه عفا الله له عن حقِّه..
ومن تجاوز تجاوز الله عنه..
ومن استقصى استقصى الله عليه.
فهذا شرع الله، وقدره، ووحيه، وثوابه، وعقابه، كلّه قائم بهذا الأصل وهو إلحاق النّظير بالنّظير، واعتبار المثل بالمثل»().
ثالثًا: فادعوه بها عبادة وعملًا
وذلك لأن أفعال (الحكيم) وأقواله وأوامره ونواهيه كلُّها خير، وإن جَهِل العبد الحكمة منها، فالواجب على العبدِ أن يطمئنَّ إلى كلِّ أمرٍ أمَرَ (الحكيم) به، وينتهي عن كل ما نهاه عنه، فلا يُقدِّم العبد على شرع الله تعالى قولًا، ولا عقلًا، ولا حكمًا، ولا رأيًا.
وحالات العبد مع التسليم ثلاثة: الكمال أو النقصان أو الجهل التام كما قال ابن الجوزي:
«فإن تحقق التسليم باطنًا وظاهرًا، فذلك شأن الكامل.
وإن وجد في الباطن انعصار من القضاء لا من المقضي- فإن الطبع لا بد أن ينفر من المؤذي؛ دلَّ على ضعف المعرفة.
فإن خرج الأمر إلى الاعتراض باللسان، فتلك حال الجُهَّال، نعوذ بالله منها»().
ومهما خفيت عليك الحكمة فسلِّم الأمر لربك (الحكيم). قال ابن الجوزي:
«ينبغي لمن آمن بالله تعالى أن يسلِّم له في أفعاله، ويعلم أنه حكيم ومالك، وأنه لا يعبث، فإن خَفِيت عليه حكمة فعله، نسب الجهل إلى نفسه، وسلَّم للحكيم المالك؛ فإذا طالبه العقل بحكمة الفعل، قال: ما بانت لي، فيجب عليَّ تسليم الأمر لمالكه.
والواجب نسبة الجهل إلى النفوس، فإن العقول قاصرة عن مطالعة حكمته، وأول من فعل ذلك إبليس، فإنه قد رآه قد فضل طينًا على نارٍ، والعقل يرى النار أفضل، فعاب حكمته!»().
هذا نبي الله يعقوب- عليه الصلاة والسلام- عندما جاءه الخبر بحجز ابنه الثاني عند عزيز مصر- وقد سبق ذلك فقده ليوسف- عليه السلام- توجه برجائه ودعائه لله عز وجل. قال تعالى يحكي حاله: قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف: 83].
وكذلك الحال ليوسف- عليه السلام- عندما جمعه الله بأبويه، حيث قال: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف: 100].
ومن خلال التأمل للآيتين السابقتين نلحظ أن يعقوب وابنه قد ختما تضرعهما لله عز وجل بعد المصائب التي حلَّت بهما بهذين الاسمين العظيمين (العليم الحكيم).
حكمة المحنة
هل في الحبس حكمة؟!
حبس عبد الله بن طاهر، مُحمَّد بن أسلم الطوسي، فكتب إِليه بعض إخوانه يُعزّيه، فأجابه:
كتبتَ إِليَّ تُعزّيني، وإِنَّما كَانَ يجب أَن تُهنّيني
أُريتُ العجائب، وعُرِضت عَليّ المصائب، إِنِّي رأيت الله تعالى يتحبَّبُ إلى من يُؤْذيه، فكيف بمن يُؤْذَى فِيهِ!
إنّي نزلت بيتًا سَقَطَت فيه عني فروضٌ وحقوق، منها الجمعة، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، وعيادة المريض، وقضاء حقوق الإخوان، وما نزلتُ بيتًا خيرًا لي في ديني منه.
فَأُخْبِر بذلك ابن طاهر فقال:
نحن في حاجة إلى ابن أسلم..أَطْلقوه، فأُفرِج عنه»().
لأنه (الحكيم) هو مالكها ومعطيها مع بذل الأسباب في تحصيلها، قال الله سبحانه: )يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ([البقرة: 269].
عرف ربه من سأل الله أن يرزقه الحكمة.
ما عرف ربه من لم يسأل الله الحكمة.
رابعًا: فادعوه بها مسألة وطلبًا
أسألك باسمك الحكيم..
احكم بيننا وبين القوم الظالمين..
أسألك باسمك الحكيم..
أرنا حكمتك في المشاهد كلها حتى لا نسخط، وفهِّمناها في سائر أوقاتنا فلا نجزع
أسألك باسمك الحكيم..
علِّمنا حكمتك إن جهلناها، وذكِّرنا بها عند الشدة إن نسيناها.
أسألك باسمك الحكيم..
افتح علينا أبواب حكمتك، وانشر علينا أنوار الفهم عنك.
أسألك باسمك الحكيم..
أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بأنوار الفهم، ولا تجعلنا من القوم العمين.
خامسًا: حاسب نفسك تعرف ربَّك
-
هل تتأمل حكمة الله في الأحداث من حولك؟
-
هل تسأل الله أن يرزقك الحكمة، وأن يفهِّمك حكمته؟
-
هل تستسلم لحكم الله مهما كان؟
-
هل تيأس من تأخر الإجابة أم تتأمل الحكمة من وراء ذلك؟!
-
هل تحكم بين الناس بما قضى الله، وتحرص على تحكيم الشرع في ما يعرض لك من مشاكل؟