27 |
القدوس (طهِّر نفسك أولا) أولا: معنى القدوس الأول: الطهارة والتقديس: التطهير، وسُمِّي سيدنا جبريل روح القدس؛ لأنه طاهر من العيوب وبالأخص في تبليغ الوحي، والأرض المقدَّسة: الأرض المطهرة، وسُميت الجنة حظيرة القُدُس، لأنها مُطهَّرة من آفات الدنيا، وفي حديث أنس [Symbol] أن رسول الله ^ قال عن رب العزة: «من تَرَك الخمر وهو يقدِر عليه لأُسقِينَّه منه في حظيرة القُدُس، ومن تَرَك الحرير وهو يقدِر عليه لأكْسُوَنَّه إياه في حظيرة القُدُس»(1). ما معنى (ونقدس لك) في سورة البقرة؟ قال الضحاك وغيره: «نطهِّر أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك»(2). يعني أن الملائكة تقول: يا رب نحن نطهِّر أنفسنا ونقدسها كي نكون أهلاً للإقبال عليك، وهي مهمة الإنسان في هذه الدنيا: أن يقدس نفسه أي يطهِّرها كي، فهذا هو ثمن دخول الجنة، والتي لا يدخلها إلا الطيبون: (طبتم فادخلوها خالدين).. أي طبتم من دنس المعاصي، وطهرتم من خبث الخطايا، فادخلوا الجنة خالدين فيها. وإن لم تتطهر في هذه الدار، ووافيت الدار الأخرى بدَرَنِك وخُبثِك أُدخِلت النار تطهيرا لك، ويكون مكوثك في النار بحسب زوال ذلك الدرن والخبث، فإذا تطهَّرت التطهر التام فكَّ الله أسرك من العذاب.
ينظِّف الإنسان بيته، ويرتِّب غرفة الاستقبال، ويهتم بموديل سيارته، ويرتدي أجمل ثيابه .. لماذا؟ ليتزيَّن أمام الخلق، فكيف لا يتزيَّن للخالق؟! القلب محل نظر الله، فكيف لا يطهِّره العبد من خبث الذنوب والحسد والحقد والخيانة؟!
الثاني: البركة والأرض المقدسة أي: المباركة، وهو قول مجاهد في قول الله {الأرض المقدسة} قال: هي المباركة(3). ويقويه أن اللَّه تعالى قد بيَّن أن الأرض المقدسة مباركة، وذلك في قوله تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ] ، وهي الأرض المقدسة.
فإذا أراد الإنسان أن يثني على الله عز وجل نسب إليه الكمالات البشرية التي يعرفها ويستوعبها عقله البشري، لكن.. كل ما خطر ببالك عن الله أعلى وأعظم وأجلُّ من ذلك، وهذا من معاني (الله أكبر) التي نهتف بها في اليوم عشرات المرات: أن كل ما عَرفتَ عن الله عز وجل ، فالله أكبر منه وأجلُّ.
ما ذكرناه هو شرحٌ لما قاله الغزالي في كلام رائق في تعريفه لاسم القدوس: «ولست أقول: منزَّه عن العيوب والنقائص، فإن ذكر ذلك يكاد يقرب من ترك الأدب، فليس من الأدب أن يقول القائل: ملك البلد ليس بحائك ولا حجّام، فإن نفي الوجود يكاد يوهم إمكان الوجود، وفي ذلك الإيهام نقص. بل أقول: القدوس هو المنزه عن كل وصف من أوصاف الكمال الذي يظنه أكثر الخلق، لأنهم نظروا إلى أنفسهم وعرفوا صفاتهم، وأدركوا انقسامها إلى ما هو كمال، ولكنه في حقهم مثل: علمهم، وقدرتهم، وسمعهم، وبصرهم، وكلامهم، وإرادتهم، واختيارهم، ووضعوا هذه الألفاظ بإزاء المعاني، وقالوا: إن هذه أسماء الكمال. وإلى ما هو نقص في حقهم، مثل: جهلهم، وعجزهم، وعماهم، وصممهم، وخرسهم، فوضعوا بإزاء هذه لمعاني هذه الألفاظ، ثم كان غايتهم في الثناء على الله ووصفه أن وصفوه بما هو أوصاف كمالهم من علم وقدرة وسمع وبصر وكلام، وأن نفوا عنه أوصاف نقصهم، وهو منزَّه عن أوصاف كمالهم، كما أنه منزَّه عن أوصاف نقصهم»(4). وقال الغزالي في تعريف آخر لاسم القدوس: «هو المنزَّه عن كل وصف يدركه حسٌّ، أو يتصوره خيال، أو يسبق إليه وهم، أو يختلج به ضمير، أو يقضى به تفكير»(5)، فكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك، بل أجلُّ وأعظم وأعلى وأكبر من ذلك {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. 1- القدوس من تقدَّس عن الحاجات والعِوز.. أما أنت فمحتاجٌ فقير، ومع كل قدراتك وإمكاناتك وعلمك وذكائك وعلاقاتك، فإن كل ذلك يتلاشى أمام شربة ماء أو نفَس هواء لو منِعت عنك لمتَّ، لهذا كاد الخليفة هارون الرشيد على عظمة ملكه المتسع شرقا وغربا أن يشتري شربة وبولة بمُلكه كله أو يزيد! عرف ربه القدوس من نزَّهه عما لا يليق به من صفات وأفعال وأحوال. ما عرف ربه القدوس من ظنَّ به ظنَّ السوء في صفاته وأفعاله وأحواله. عرف ربه القدوس من نزَّه الله عن الحاجات والعِوَز وغيرها من صفات البشر. ما عرف ربَّه القدوس من لم ينزِّهه عن الاحتياج والضعف والعجز الذي يعتري البشر. 2- القُدُّوس من تقدَّس عن زمان يُضعِفه ويُبليه، فالإنسان مثلا في سِنِّ الستين ليس كما كان بالثلاثين أو العشرين، يعني أن الزمن يُضْعِف قوَّته ويُبليه، فيحتاج إلى قطع غيار كثيرة! فيلبس نظارة طبية ويضع أسنانا صناعية حين يبلغ سن الشيخوخة! 3- القدُّوس الذي قدَّس عباده الطائعين أي طهَّرهم من كل سوء، فإذا رضي (القدوس) عن العبد جعله طيِّبا مستقيما عفيفا سليم الصدر، ليس في قلبه غلٌّ ولا حقدٌ ولا غشٌّ، ولا يملك مفتاح هذه الهداية والاستقامة والطهارة سوى الله عز وجل، ولذا كان الدعاء متوجِّها إلى الله وحده: «اللهم طهِّر قلبي من النِّفاق، وعملي من الرِّياء، ولساني من الكذب، وعيني من الخيانة، فإنَّك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصُّدور». عرف ربه القدوس من توجَّه إليه في تطهير قلبه وسلامته من النفاق والرياء والكبر والعُجب. ما عرف ربه القدوس من لم يدعُ الله بأن يطهِّر قلبه وعمله، وإنما غاية دعواته وطلباته دنيوية.
واذكروا الشاب الذي استأذن النبي ^، فوضع رسول الله يده على صدره، وقال: «اللهم طهِّر قلبه، واغفر ذنبه، وحصِّن فرجه»، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء(6). عرف ربه القدوس من طهَّر قلبه من حب الدنيا والتعلق بها، ولم يسمح أن تتسلَّل من يده إلى قلبه. ما عرف ربه القدوس من تعلَّق بحب الدنيا حتى آثرها على آخرته، وسكنت العاجلة قلبه فطردت حب الآخرة. لا قداسة مع ظلم! نفى رسول الله ^ القداسة عن الأُمَّة الظَّالمة فلا طهر فيها ولا بركة، فقال: «لا قُدِّسَتْ أُمةٌ لا يَأْخُذُ الضَّعيفُ فيها حَقَّه غَيْرَ مُتَعْتَع»(7). المتعتع: المقلق المنزعج، وقال ^: «كَيف يُقدِّسُ اللهُ قوما لا يُؤْخَذُ لضعيفهم من شديدهم»(8). وهذا الحديث جاء في سياق أعاجيب أرض الحبشة التي رآها الصحابة اثناء هجرتهم، واسمع إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه: لما رَجَعَت إلى رسول الله ^ مُهَاجِرة البحر، قال: ألا تُحَدِّثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟ قال فتية منهم: بلى يا رسول الله، بينا نحن جلوس مرَّت بنا عجوز من عجائز رهابينهم، تحمل على رأسها قُلَّة من ماء، فمرَّت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثمَّ دفعها، فخرَّت على ركبتيها، فانكسرت قلَّتها، فلمَّا ارتفعت، التفتت إليه، فقالت: سوف تعلم -يا غُدَر- إذا وضع الله الكرسيَّ، وجمع الأولين والآخرين، وتكلَّمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدًا. قال: يقول رسول الله ^: «صَدَقَت صَدَقَت، كيف يقدِّس الله أمَّة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟!»(9). قال المناوي: "استخبار فيه إنكار وتعجُّب، أي: أخبروني كيف يُطهِّر الله قومًا لا ينصرون العاجز الضَّعيف على الظَّالم القويِّ، مع تمكُّنهم من ذلك؟ أي: لا يطهِّرهم الله أبدًا"(10). فظلم البعض يَنْتَقِص من طهارة الأمة وبركتها إلا أن تقاوم الظلم وتحاصره، فلا قداسة لأمة ولا وطن ولا جماعة فشا فيها الظلم وانكسر فيها المظلوم، وقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم هذا جيدا، فكتب أبو الدَّرْداء [Symbol] إلى سلمان الفارسيِّ ليهاجر من العراق إلى الأرض المقدَّسَة؛ وهي الشَّام، فَرَدَّ عليه سَلْمان ببلاغة تُوَضِّحُ مفهومَ القداسة: «إنَّ الأرضَ لا تُقَدِّسُ أحدًا؛ وإنَّما يُقَدِّسُ الإنسانَ عَمَلُه»(11). وقد تعلَّمها سلمان رضي الله عنه من غير فقيه! فقد صلى سلمان الفارسي مع أبي الدرداء رضي الله عنهما يوما في بيت نصرانية، فقال لها أبو الدَّرداء: هل في بيتك مكان طاهر فنصلّي فيه؟! فقالت: «طهِّرا قلوبكما، ثمّ صلِّيا أين أحببتما. فقال سلمان لأخيه أبي الدرداء: خذها من غير فقيه»(12). تطهير فوق تطهير! يريد (القدوس) أن يطهِّرك من الظلم، ومن كل ما يتعلق بالظلم، ولو كان في نظرك يسيرا وكان عند الله خطيرا، ومن ذلك: الركون إلى الظلمة، فقال سبحانه: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) أي لا تميلوا أدنى ميلٍ إلى الذين صدر عنهم الظلم ولو قلَّ، فلم يصفهم الله بالظالمين بل بالذين ظلموا، فإذا كان الميل إلى من وُجِدَ منه أي ظلم يُفضي إلى النارِ، فما ظنك بمن يميل إلى الراسخين في الظلم؟! ويؤيِّد المسرفين في العُدوان؟! وما الظنُّ بِمَن يتسابق إلى صحبتهم ويتودُّد إليهم؟! وما الظن في من يمُدُّ عينيه إلى زهرة حياتهم، ويحسدهم على ما وصلوا إليه عن طريق ظلمهم؟! وإذا كان هذا مصير من مال إلى ظالم، فما ظنك بالظالم نفسه؟! ولذا كانت الآية أبلغَ ما يُتَصوَّر في النهي عن الظلم مع ما فيها من تهديدٍ للظالمين. والركون إلى الشيء: الاعتماد عليه، ورُكْنِ الشيء: جانبه الأقوى، وما تتقوى به من ملك وجند وغيره، ومنه قوله تعالى «فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ». وعدم الركون إلى الظلمة مفهوم جامع شامل يغطي دوائر الظالمين في كل زمان ومكان. قال الفضيل بن عياض: ويترتب على هذا النهي الجازم نواهٍ أخرى: لا تعملوا أعمالهم، ولا ترضوا عنها، ولا تمدحوهم عليها، ولا تتركوا أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولا تأخذوا من حرام أموالهم شيئا، ولا توادّوهم بقلوبكم، أو تخالطوهم بأبدانكم، فكل هذا يشمله النهي عن الركون إليهم. ومن أسرار هذا النهي وحكمته: أن ركونك إلى الظالم يؤنس وحشته، ويغريه بالمزيد من ظلمه، وأن ابتعادك عنه وهجرك له يزلزل بنيانه؛ ويُضعِف نفوذه؛ وفي هذا عزلةٌ له وردعٌ له عن الظلم. يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله: «وأدنى مراتب الركون إلى الظالم ألا تمنعه من ظلم غيره، وأعلى مراتب الركون إلى الظالم أن تزيِّن له هذا الظلم؛ وأن تزيِّن للناس هذا الظلم»(14). عرف ربَّه القدوس: من طهَّر معاملاته مع الخلق من الظلم والبغي، فلم يعتد على أحد بقول أو فعل. ما عرف ربه القدوس: من ظَلَم غيره، زوجة أو ولدا أو جارا أو مرؤوسا بقول أو فعل. ثالثا: فادعوه بها عبادة وعملا
كان رسول الله ^ يقول في ركوعه وسجوده: (( سُبُّوح قدوسٌ رب الملائكة والروح ))(15). وكان النبيُّ ^ يسبِّح الله بعد فراغه من صلاة الوتر كما في حديث أُبي بن كعب: ((كان رسولُ الله ^ يقرأ في الوتر بِسبِّح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد، فإذا سلَّم قال: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات))(16) .
وأن يطهِّرك من دنس آفاتك في جميع حالاتك، وأن يطهِّر قلبه من كل شهواته، ومن جوامع الأدعية النبوية الجديرة بأن يحفظها كل مسلم: «اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء».
لعلَّ الله أن يطهِّر قلبك عن الغيْبَة عنه. عرف ربه: من طهَّر لسانه من الغيبة والنميمة والاعتداء. ما عرف ربه: من وقع في غيره غيبة ونميمة، فتلوَّث قلبه بعثرة لسانه.
ليهب الله لك نور بصيرتك، فإن من أطلق بصره في الحرام حجب الله بصيرته.
لا تظلم أحدا، وتبرَّأ من الظلم والظالمين، ولا تركن إليهم، ولترد المظالم إلى اهلها قبل ان ياتي يوم لا تملك هذه المزِيَّة، فلا دينا ولا درهم، ولا توبة ولا رجوع، بل حساب شديد على ما مضى من بغي أو عدوان.
عرف ربه القدوس: من طهَّر بصره عن النظر بشهوة إلى الحرام حتى لو كان صورة في الشاشات والمجلات. ما عرف ربه القدوس: من أطلق بصرَه في الحرام، فتلوَّث قلبه بالأهواء، وهوى نحو الشهوات والمخالفات. رابعا: فادعوه بها مسألة وطلبا
«اللهم طهِّر قلبي من النفاق، وعملي من الرياء، ولساني من الكذب، وعيني من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور».
(اللهم طهِّرني من الذنوب بالثلج والبرد والماء، اللهم طهِّرني من الذنوب كما يُطهَّر الثوب من الدنس).
أن تطهِّر باطننا من كل ما لا يرضيك كما طهَّرت ظاهرنا بكل ما يرضينا.
أن تطهِّر قلوبنا من حب الدنيا، وتجعل في قلوبنا بدلا منها حب الآخرة..
أن تطهِّر قلوبنا من كل شهوة تردينا، وهوى يُشقينا، وغنى يُطغينا، وخطايا تهدِم فينا.
أن تطهِّر قلوبنا من الكذب والخيانة، وأن تجعل مكانهما الصدق والأمانة.
عرف ربه القدوس: من دعا باسم القدوس لكي يطهِّر قلبه ولسانه وجوارحه مما يُغضِب الله. ما عرف ربه القدوس: من غفَل عن الدعاء، فصار وحيدا في وجه دنس السيئات وأعاصير الشهوات.
خامسا: حاسب نفسك تعرف ربك
|